لم يكن من السهل فى أيام وصول الحرارة لدرجة أصبحت نيرانها "تسيح" العقول ويتحول البنى آدم (لزومبى) يمشى فاقدا للوعى والكيان لا حول له ولا قوة، لم يكن سهلا، أن يؤجل قلة من المواطنين ما وراءهم من مهام أو مشاوير أو عمل بعد أن أشارت المؤشرات الرسمية إلى قربها من درجة الغليان، ومع الأسف كنت أنا ضمن هذا الفريق.
نزلت وأنا محصنة ومدججة بأسلحة زجاجات المياه المثلجة المتجمدة لزوم الوقاية من لفحات النار التى قد تصيب الحنجرة واللوز والأنف والأعين حتى الأذنين.
حضرت فى يدى من أجل مشوار لا يتجاوز العشرين جنيها أو الخمسة عشرة، أمسكت بورقة بخمسين تحسبا لإكرام من يقف لى من سائقى الأجرة، وبالفعل توقف الشاب الأنيق صاحب عربة الأجرة الأكثر أناقة، سألته الذهاب وأنا العجوز الضعيف إلى الشارع الموازى للشارع الرئيسى، الذى لا يمكن أن أعبره لأنه تحول إلى شارع كبير بدون إشارات يتسع لأربع حارات سرعتها تتجاوز الـ 60 كيلومتر.
لكن الشاب نظر لى نظرة تأمل وأنا أشرح له المكان، وقال متسائلا: كيف ستقدرين أتعابى للوصول إلى الشارع الموازى فى هذا الحر؟
لم أفهم السؤال فى البداية، لكن الإحساس قال إنها محاولة ابتزاز عارية وقحة مستفزة، وبكل غرور ألقيت فى وجهه الورقة أم خمسين جنيها، التى كانت فى الثمانينيات هى راتبى على مدى شهرين، ثم قلت له.. ملوحة بها:
انظر لقد حضرت لمن سيقف لى ورقة بخمسين جنيها إكراما له على العمل فى هذه الأجواء، ابتسم ابتسامة المنتصر وقال بغرور الظافر، وكأنه يتنازل، أوكيه اركبى!
لكننى بعد أن ركبت شعرت بالمهانة، لماذا خضعت لهذا الابتزاز؟
لماذا لم أنتظر أقرب ميكروباص يمكن أن يساعدنى على العبور؟ لماذا لم أنتظر بجانب كشك المشروبات المثلجة وأختار وأنا أبلبلع ما يمكننى بلبعته من الحاجة الساقعة حتى يقف لى سائق عجوز مكحكح مثلى يرضى بقليله، فأشعر أننى راضية عن قناعة فى مشوار لا يتكلف 15 جنيها.
وانتفخت أوداجى واحمرت وكادت شعيراتى البيضاء من أسفل الحجاب تخترق حاجزه معلنة غضبها من صاحبته ويسألنى هل أفتح لك التكييف وأنا أرد باستياء: لا وفر البنزين يمكن ينفعك واعطيته الخمسين جنيها أجرة عبور الشارع فى عز الحر، ويا بلاش ويا حسرة على الشباب، قلتها وأنا أبرطم ومن غضبى جلست على أقرب رصيف معلنة إحتجاجى على هذا الموقف، وإذا به يتوقف امامى الميكروباص الذى سألنى سائقه الشاب تعالى يا أمى أوصلك ببلاش فى هذا الحر ولن آخذ منك أجرة!