جلست فى المقاعد الخلفية حتى يأخذ «عم المثقف» كما اسمى نفسه سائق الميكروباص يأخذ راحته فى حشو «مكروباصه»، بالمثقفين على حد تعبيره.
كنت قد خرجت من حفل توقيع مناقشة كتاب الصديقة الكاتبة الصحفية مايسة السلكاوى، بعنوان «وجوه مصرية» ولم أجد وقتا لشراء أى كتاب، ولكننى لحقت «لاست أوردر»، Lost Order، من ساندويتش فول وواحد طعمية من غير سلطة.. حملت الطعام فى يمينى والكتاب فى يسارى وسمعته ينادى.. مكروباص «السكافة» أكيد يقصد الثقافة.
أخذت أتصفح الكتاب الغنى بالوجوه المصرية الرائدة فى القرن الماضى وما قبله، وبما أن الشىء بالشىء يذكر توقفت عند عنوان «إمبراطور الأوتوبيس»!! لصاحبه «عبد اللطيف أبو رجيلة» الذى بدأ مشواره الرأسمالى بـ ٣٤ جنيها!! نجح وكون ثروة طائلة بالأربعة وثلاثة جنيها كلما قرأت خطوات من مشوار حياة أبو رجيلة إمبراطور الأتوبيس نظرت من طرف نظارتى المقعرة إلى «عم المثقف» سواق الميكروباص وتخيلته أبو رجيلة!
فى عام ١٩٥٤ استدعى عبد اللطيف البغدادى عضو مجلس قيادة الثورة ووزير الشئون البلدية، إمبراطور الأتوبيس «أبو رجيلة» وطلب منه أن يتولى مسئولية أتوبيس القاهرة!! عاد الرجل ليصبح كما لقب إمبراطور الأتوبيس!! قطع قراءتى لمشوار حياة إمبراطور الأتوبيس أبو رجيلة صوت سائق الميكروباص ينادى ويفتح الباب وهو يزعق سكافة.. سآفة.. أتوبيس المسأفين فقط!! أخذ ينادى من أمام أحد الجامعات!
خبأت رأسى بين صفحات الكتاب حتى لا أراقب الكارثة التى وضعت نفسى فيها وقرأت كلمات أبو رجيلة بأن أزمة المواصلات فى القاهرة يمكن أن تحل قبل أن ينتهى من قهوته!! وكيف أنه عاش حزينا على إهدار تجربته فى مطلع الخمسينيات، حينما استورد ٤٠٠ أتوبيسا فاخرا يقدم خدمة راقية بمواعيد منضبطة والتدريب للسائقين والكمسارية والرقابة الصارمة، وكان الزمن الفاصل بين كل أتوبيس ثلاث دقائق!! وأدخل خدمة الراديو فى الأتوبيسات!! وارتفع عدد العاملين إلى ٤ آلاف عامل!! كما عين كمساريات من الفتيات اختارهن بدقة!! وهنا تذكرت فيلم إسماعيل يسين وكيف كان فيلما واقعيا.. بدأت أذرف الدموع وأنا أقرأ حال المواصلات فى الخمسينيات وحال ما أشعر به وأنا سردينة مثقفة داخل ميكروباص السآفة «الثقافة»!! الذى بدأ يمتلأ بعائلتين من أصحاب الذقون والجلاليب ونساءهم محملين بأطنان من كتب المفروض أنها كتب دينية كلها بأغلفة النار النار النار وأشراط الساعة وعذاب الآخرة واللهم لا اعتراض، إلا أننى كنت أحمل مجرد كتاب اسمه «وجوه مصرية»، ولا ارتدى لا العباءة ولا الجلباب ولا لدى ذقن! لا أدرى لماذا شعرت أننى والعياذ بالله من الفاسقات المارقات.. ولم يشفع لى إلا إفشاء السلام.
ودى نهاية من يركب ميكروباص «السآفة» وللثقافة وجهات نظر خاصة عند السواقين.. تذكرت نداء الدولة بضرورة تغيير الخطاب الدينى وأنا أرى الكتب المحملة من الجامعة والكاسيت الذى وضعه أحد الذقون لنسمعه كلنا.. وحسبى الله ونعم الوكيل.
قلتها للسائق وهو يتجرأ وينظر للوراء إلى نسائهن طالبا الأجرة قبل أن يتحرك ومنى أنا بالذات الجالسة فى الآخر وإذا بأبى مسعد ينهره انظر أمامك.. ولا يمين ولا يسار أمامك فقط.. ضحكت وقلت فى سرى أحسن تستاهل عاوز ثقافة ومسأفين؟ خد.. دى ثقافة الألفية الثانية يا حدوقه.. وأنا على الربابة بغنى فى سرى وسلم لى على سآفة الميكروباصات.